ظاهرة الهدر المدرسي : الأسباب والحلول
تعريف الهدر المدرسي
مهما تعددت الأسماء واختلفت المفاهيم والمصطلحات حول الهدر المدرسي، فإن هذه الظاهرة تحمل مدلولات ومسميات أخرى كالتسرب والفشل المدرسي، والتخلف الدراسي، والانقطاع المدرسي، وعدم التكيف الدراسي..، وكثير من المفاهيم التي تعد حقلا خصبا لسوسيولوجيا التربية هي نتيجة واحدة لشيء واحد، هو ترك الدراسة قبل إنهاء مرحلة معينة، وهي آفة تسائل الدولة والمجتمع، بل تسائل السياسة التعليمية ببلادنا ككل.
لذا ينبغي علينا أن نعترف أننا أمام ظاهرة تؤرق المجتمعات العربية بشكل عام، والمغرب بشكل خاص، وتساهم في عدم تطور الفرد بل المجتمع برمته، فهي من العوامل القادرة على شل حركة المجتمع ووضعه في دائرة التخلف والتقهقر، بعيدا عن مواكبة لغة العصر في التقدم والانفتاح
تبين الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية، والتي أجريت خلال سنة 2008 أن أكثر من 300.000 ألف تلميذ وتلميذة من الفئة العمرية (6-15سنة ) ينقطعون سنويا عن الدراسة [1]، هذا الأمر الذي يتسبب في تأخر التعليم من جهة ، وفي الرفع من نسبة الأمية من جهة ثانية ، والتي تصل نسبتها إلى حوالي 34% حسب الإحصائيات الرسمية[2] ، بينهم أكثر من مليون طفل يتراوح عمرهم 9 و14 خارج المدرسة لا يعرفون القراءة والكتابة. كل هذا يجعل بلادنا تحتل مراتب متدنية في مؤشرات التنمية البشرية بالرغم من المجهودات المبذولة .
فالهدر المدرسي يشكل آفة تؤثر سلبا في تنمية مجتمعنا، حيث أظهرت دراسة من طرف المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008 أن التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة بعد أربع سنوات يؤولون إلى الأمية، مما يشكل استنزافا للموارد البشرية والمادية للبلاد، إذ يمكن تقدير تكلفة عدم التمدرس والانقطاع عن الدراسة بنسبة 2%من الناتج الداخلي الخام، وهذه الظاهرة كما أسلفنا تنتشر بالعالم القروي، مما يستنزف التقدم الذي تحقق في تقليص الفوارق في نسب التمدرس بين الوسطين الحضري والقروي، وبين الجنسين فمعدل تمدرس الفتيات بين 12 و14 سنة من العمر لم يتجاوز %43 في الموسم الدراسي 2006-2007 مقابل %75 كمعدل وطني بالنسبة لهذه الفئة العمرية. وتضاف فئات التلاميذ المنقطعين عن الدراسة، إلى صفوف المستهدفين ببرامج محاربة الأمية وبرامج التربية غير النظامية، التي تبقى المسلك الوحيد لإعادة الإدماج في المنظومة ، علما أن الطاقة الاستيعابية لاستقبال المستفيدين من هذه البرامج لا تكفي آلاف المنقطعين عن الدراسة.
في خلاصة تقرير منظمة اليونسكو، وهي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، والصادر سنة 2014، جاء فيه أن المغرب احتل المرتبة ما قبل الأخيرة عربيا في عدد الخريجين. كما أن 10% من الأطفال لا يلتحقون بالمدرسة، و حوالي 34.5 % فقط هي نسبة التلاميذ الذين يلتحقون بالتعليم بالثانوي، هذا بالرغم من كل الإمكانيات التي توظف في قطاع التربية والتعليم، والتي تفوق 5 % من الدخل العام للبلد.
أما عن أسباب الهدر المدرسي، فتتنوع بين أسباب اجتماعية، وثقافية، ، وتربوية،
الأسباب الاجتماعية والثقافية
وتتجلى في العوامل والأسباب التالية:
الغياب المتواصل للآباء عن البيت، العنف داخل الأسرة، الانحراف الأخلاقي لبعض التلاميذ والتلميذات كالتعاطي للتدخين والمخدرات-
أمية الآباء، غياب علاقات التواصل مع الأسرة، رفض بعض الآباء لتمدرس الفتاة كالخوف من تعرضها للتحرش الجنسي، أو من صدور أعمال عنها قد تسيء إلى سمعة العائلة-
-سيادة بعض الأفكار الخاطئة حول تدريس الفتاة القروية، حيث ترى بعض الأمهات أن البنت يجب أن تتعلم الأعمال المنزلية وبعض الأنشطة الممارسة في المنطقة، وهذا كفيل لها بحياة زوجية ناجحة أما الدراسة فهي شيء ثانوي.
مسألة الزواج المبكر، والتي تعد من بين الأسباب التي توقف مسيرة الفتاة الدراسية عند مراحلها الأولى.-
أما الأسباب الثقافية فتتعلق أساسا بنظرة السكان القرويين للمدرسة، فالعادات والتقاليد تلعب دورا هاما، فقد نجد أسرا أحيانا تشجع أبناءها وبناتها على التمدرس خلال المرحلة الابتدائية فقط
. الأسباب التربوية
تتجلى هذه الأسباب في النقط التالية:
ضعف قدرة بعض التلاميذ على مواكبة وتيرة الدراسة؛-
تعدد المستويات الدراسية في القسم الواحد في بعض الأماكن من العالم القروي، وكذا الاكتظاظ، الذي يمكن اعتباره ظاهرة عامة بأغلب المؤسسات التعليمية على الصعيد الوطني.-
-عدم ملاءمة المقررات مع خصوصيات الفئات المستهدفة، فضلا عن حالات التكرار المتعددة، وكذا ارتفاع تكلفة التدريس بالنسبة للفئات المعوزة؛
-سوء العلاقة بين المعلم والمتعلم؛
_غياب الوسائل البيداغوجية والديداكتيكية؛
-عدم جاذبية الفضاء المدرسي وقلة الأنشطة المدرسية والترفيهية؛
-عدم ملاءمة بعض برامج التكوينات الأساسية للأساتذة والمديرين مع متطلبات المدرسة والتلاميذ؛
-ضعف تغطية المدرسة لحاجيات تمدرس الطفل (الكتب والمعدات المدرسية، عدم توافر المطاعم المدرسية بالعديد من المدارس وخاصة بالعالم القروي، عدم وجود دور الطالبة بالقدر الكافي
-ضعف البنيات التحتية المدرسية، وفي هذا الإطار لا تزال العديد من المدارس بالمناطق القروية بالخصوص غير مرتبطة بشبكة الماء الصالح للشرب أو لا تتوفر على مرافق صحية ، أو تفتقر للكهرباء. وقليلة هي المؤسسات التعليمية التي تتوفر على سكن مخصص للمدرس ، ومن ثم فإن عددا مهما من المدرسين يزاولون عملهم في ظروف غير ملائمة للعملية التربوية
حالات الغياب المتكررة لدى بعض المدرسين، والتي تعود في الغالب إلى ظروف العمل الصعبة ولاسيما بالوسط القروي (البعد، السكن، النقل، التجهيزات
كل هذه الأسباب التربوية التي ذكرناها وأسباب أخرى، تلعب دورا كبيرا في تراجع دور المدرسة ورسالتها التربوية وتفقدها الثقة في المحيط الاجتماعي والأسري، وتخلق نفورا في نفوس التلاميذ الذين يغادرون حجراتها وأقسامها دون استكمال دراستهم. وهذه الوضعية المقلقة تسائل دور الدولة والوزارة الوصية على القطاع، وكذا دور الجماعات الترابية في توفير بنيات مدرسية بمواصفات جيدة ولائقة
إقتراحات من أجل الحد من الهدر المدرسي
ينبغي أن نعيد التأكيد على أن ظاهرة الهدر المدرسي تعتبر معضلة تربوية كبرى تحول دون تطور المنظومة التعليمية ببلادنا خصوصا بالعالم القروي، كما أن لها آثارا وخيمة، كارتفاع نسبة الأمية والبطالة وانحراف الشباب. لذا فإن الظاهرة تتطلب حلولا ملموسة وعميقة وبعد نظر واعتماد مقاربات جديدة في مواجهتها، سيكولوجية واقتصادية واجتماعية. وفي هذا الإطار، يمكن تقديم بعض المقترحات التي نراها مهمة من أجل الحد من الهدر المدرسي وهي كالتالي:
أولا: تفعيل أدوار المؤسسة التعليمية
عن طريق ضبط الغياب وانقطاع التلاميذ وتنويع وإغناء الموارد المالية والتمويلية لتنمية قطاع التعليم وتفعيل الهياكل اللاممركزة مثل مجالس التدبير والفعاليات المحيطة بالمدرسة، والإدارة التربوية نفسها، ووضع خطة لتنظيم الدعم التربوي، وتوسيع قاعدة المستفيدين من القاعات المتعددة الوسائط، وتكثيف محاربة الأمية والتركيز على الوظيفية منها، والعمل على تشجيع الشراكة في مجال النقل المدرسي.
تأهيل الموارد البشرية العاملة بالمؤسسات التعليمية واستكمال تكوينها.
ثانيا: تنمية الفضاء المدرسي
عن طريق تحسين فضاءات المؤسسة التعليمية لتوفير شروط الراحة والجاذبية للتلاميذ، وتجهيز الوحدات المدرسية بالماء والكهرباء والمرافق الصحية والرياضية.
ضرورة تقريب المدارس من التجمعات السكانية، وتمتين جسور التواصل بين المدرسة والأسرة ، وكذا معرفة الصعوبات التي يعاني منها التلميذ في تأقلمه مع المحيط المدرسي، وإفساح المجال أمامه لإبراز ذاته والتعبير عن رغباته واهتماماته ، علاوة على خلق أنشطة ثقافية موازية ودعم الأنشطة التربوية.
ثالثا: إجراءات التدخل والتعبئة والتأطير
تتجلى هذه الإجراءات في النقط التالية:
تكثيف التحسيس والتأطير وتقديم الدعم المادي والتربوي والاجتماعي، ومنها أساسا تحسين جودة الخدمات المدرسية، وتوسيع شبكات المطاعم المدرسية والداخليات وتعميمها في مختلف المناطق القروية وتجهيزها وترميمها والعناية بها.
بناء دور ملائمة للفتيات المنحدرات من الوسط القروي وضمان بيئة تربوية مناسبة، وتوفير مساعدات اجتماعيات لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي
مواصلة تطوير النقل المدرسي لفائدة الأطفال القاطنين بعيدا عن المنشآت التعليمية، وإحداث جمعيات لهذا الغرض لأجل التتبع.
الزيادة في المنحة التي تقدمها الحكومة للتلاميذ في وضعية هشة –في إطار برنامج تيسير- مع رفع عدد الممنوحين والاستفادة من الدعم الاجتماعي.
تعبئة وانخراط كل الفاعلين (حكومة ومجتمع مدني، وفاعلين محليين وجهويين، من أجل إرساء خطة استراتيجية شاملة تستهدف التدخل لتحديد المناطق والجماعات الأكثر حاجة واستعجالية والتي تعرف نسبة كبيرة في الهدر المدرسي.
انخراط المؤسسات التعليمية، وجمعيات أولياء وأمهات التلاميذ، والأساتذة، والمربين، ومؤسسات محلية من أجل وضع خطة ميدانية لمحاربة الهدر المدرسي، من خلال عقد لقاءات مباشرة مع الآباء والأمهات لحثهم على تدريس أبناءهم خاصة بالبوادي، أو من خلال وضع منشورات ومطويات للتعريف بظاهرة الهدر المدرسي وخطورتها وأثرها السلبي على التلميذ والمجتمع، وفي المقابل توضيح أهمية التعليم وأثره الايجابي في حياة أبناءهم وبناتهم.
وخلاصة القول أن محاربة الهدر المدرسي بكل أشكاله وبمختلف الأسلاك التعليمية بهدف الاحتفاظ بالتلاميذ أكثر ما يمكن داخل النظام التربوي، يتطلب حلولا عميقة ودعما وطنيا ومساهمة دولية، من خلال الرصد والاطلاع على الاستراتيجيات والمقاربات المعمول بها في سياقات متعددة لجعل التلميذ محور الاهتمام، وتقديم أجود الخدمات، وتوفير شروط النجاح المدرسي، وربط المؤسسة التعليمية بمحيطها بشكل يساعد على تكوين المواطن المتشبث بقيم المواطنة والهوية والمنفتح أيضا على قيم العصر والديمقراطية.
إن ورش الإصلاح الذي تقوده وزارة التربية الوطنية اليوم في إطار مشاورات جهوية مع الفرقاء والفاعلين الجهويين، يتطلب بكل إلحاح إعادة النظر في الدور الحالي للمدرسة العمومية في اتجاه تقوية إشعاعها وإبراز مكانتها ، وفي اتجاه إعادة الاعتبار للمربي لأداء رسالته النبيلة والجسيمة في نفس الوقت، لأنه يؤدي أصعب مهمة وهي وظيفة تربية النشء والأجيال المتسلحة بالمعرفة الصحيحة والبناءة التي تسهل انخراطه في الحياة العامة والإسهام قدر جهده في عملية التنمية المأمولة، وذلك من أجل ضمان مدرسة عمومية تعيد الثقة للأسر المغربية، وتكون فضاء جذابا ومستقطبا للتلميذ، مدرسة عمومية تتوفر على بنيات تحتية جيدة، وتقل فيها الإكراهات والصعوبات التي يعاني منها نظامنا التعليمي منذ عقود كالهذر المدرسي، الرسوب، الاكتظاظ ، التكرار،الأمية.
تعليقات
إرسال تعليق